الجمعة، 4 ديسمبر 2015

أين يذهب العربي الحر؟

أين يذهب العربي الحر؟


إذا كنت عربياً فهذه مشكلة... والأدهى منها أن تكون عربياً ترفض الذل أو ترفض أن تحيا للقمة العيش فقط... لأنك ستكتشف حينها أنه لا مكان لك في هذا العالم العربي الممتد من المحيط إلى الخليج... ستضيق عليك الأرض بما رحبت به، فجميع العواصم العربية تنوء بالأحمال فلن تستطيع استيعاب حملك أيضاً... حتى العاصمة التي أبصرت نور الحياة لأول مرة فيها ستتخلى عنك... ربما تسعك سجونها فقط... أما دون ذلك... فمعذرة... لا مكان لك.

توجهت إلى صنعاء... فوجدتها ضاقت على من فيها، هجرها أهلها بعد أن تنفذ فيها طغمة من الفاسدين المفسدين... الذين سرقوا، ونهبوا، ودمروا، وقتلوا وهكذا دواليك، حتى أصبحت صنعاء ابنة العروبة، غريبة في بلاد العرب، لا تذوق للاستقرار والراحة طعما.
غادرت صنعاء إلى دمشق... فإذا بها قد دُمرت... بعد أن استفرد بها الطغاة الظالمون، رجالها كالشياه يذبحون، وفي معتقلات التعذيب يقضون، أما فتياتها ونساؤها فيعتقلن، ويغتصبن، وفي أحسن الأحوال والظروف فقط يشردن... أما أطفالها ففي مجازر جماعية يقتلون، أميون دون مدارس وتعليم يعيشون، وإلى دول الجوار يشردون. لملمت نفسي المبعثرة وهمومي وجراحي وقررت الإبقاء على روحي، فرحلت عن دمشق... داعيةً لها بتفريج الكروب، والخلاص من الظلم والظالمين.

وصلت القاهرة، مدينة عمرو بن العاص... فوجدت الأمن والأمان ينعدمان فيها، أما العدالة فقد غادرتها وانتقلت إلى رحمته تعالى، بعدما أحكم العسكر قبضتهم على أنفاسها. حتى لقمة العيش عزت على الكثيرين فيها في معظم الأوقات. ومن لم تقتله البطالة من أبنائها، قتله العسكر في الميادين والجامعات والسجون، حرائرها يختطفهن مجهولون من الشوارع العامة في وضح النهار، ويسقن إلى أماكن مجهولة، وتنقطع أخبارهن ويُهدد أهلهن إن تحدثوا عن أي شيء يخص ذلك، حتى بات الأسعد حالاً هو من لم يولد ولم ير الظلم على وجه هذه الأرض.
في القاهرة حذار أن يكون لك عقل يفكر، فلربما يغويك تفكيره هذا فترفض الظلم الواقع عليك، لأن الرفض محرم وممنوع، كلمة لا مسموحة فقط في عبارة "لا إله إلا الله"، والحذر ثم الحذر أن تستعمل أحد الحروف الآتية: (إ، خ، و، ا، ن) لا تنطقها على لسان، فقد تم حذف هذه الأحرف الخمسة من اللغة العربية، فعلماء اللغة في مصر اتفقوا أن مجموعة الأحرف هذه تجلب الإرهاب وتدمر الدولة بمجرد أن ينطق بها الشخص، لهذا تم تحريم تداولها منعاً لانتشار العدوى، فأرجوك لا تتلفظ بها "فالحيطان" لها آذن ستسمعك إن نطقتها، وسيتم استضافتك في "طرة" حينها، لأنه الفندق الوحيد الذي يليق بمقامك، وسترى فيه من عجائب الدنيا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت لا ولن يخطر لك على بال ما سيحدث بعد ذلك.

خطرت ببالي بغداد، بلد الرشيد، وبلد الحدائق المعلقة والتاريخ العريق، فقررت الذهاب إلى العراق، علني أجد سلوتي بين الحضارات الإنسانية العريقة التي مهدت لتطور الإنسان وتقدمه، من حضارات بابلية وسومرية وأشورية... بمجرد أن وطئت قدماي العراق وداعبت رائحة مياه دجلة والفرات الخلايا الحسية في أنفي، اعتقدت أن بغداد هي العاصمة العربية التي ستستوعب وجودي فيها... خابت آمالي عندما وجدت الخطر المحدق، فمهد الحضارات الإنسانية لم يعد فيها أي احترام لبني الإنسان، روح الإنسان فيها من أرخص الأشياء، لتحافظ على حياتك لا بد وأن تكون مع التيار العاتي الذي يجرف أثناء سيره كل ما في طريقه، وإلا الويل ثم الويل... فالقتل على الهوية أو سجن أبو غريب على أقل تقدير.

قررت قطع رحلتي والعودة أدراجي إلى فلسطين الجريحة... فلن أذهب إلى طرابلس، أو بيروت، أو باقي العواصم العربية. فالأمن، وحرية الاعتقاد والكلمة، واحترام كرامة الإنسان، التي أعياني البحث عنها، لم يعد لها أثراً في بلاد العروبة، بل أضحت من المحرمات التي تعرض مطالبيها للقتل والتشريد والسجن. 

عدت إلى القدس، استغاثات المسجد الأقصى التي لا تنقع صمَّت أذناي، هدير الطائرات وأصوات انفجارات الصواريخ وانهيار المباني وصرخات الأطفال والثكالى في غزة أحالت الدنيا في ناظريَّ ظلام دامس...
ولكن فجأة... داخلني شعور بالسعادة والسرور عندما بدأت ألمح خيوط الأمل تتسرب يحملها المقاومون على أكتافهم ويعبرون بها الأنفاق إلى داخل القطاع، يبثونها في نفوس المحاصرين والجرحى والثكالى، ويبعثون بها نسمات حياة للأقصى تحمل له رسالة مفادها... لا تحزن إن الله معنا... انتظر قليلاً، سنعبر إليك محررين بإذن الله.


د. زهرة وهيب خدرج