الأربعاء، 26 أغسطس 2015

هل تحبيني؟

هل تحبيني؟


أمسك بطرف ثوبها وهزه بقوة قائلاً: أمي هل تحبينني؟ كثيراً ما يسألها هذا السؤال خاصة عندما تنشغل عنه لبعض الوقت، وكأنه يريد أن يتأكد أنه لا يزال الأحب بالنسبة لها رغم مشاغلها الكثيرة التي تخطفها منه، فهو دائم القلق والحرص على مشاعرها تجاهه. أجابته من دون تردد وبعاطفة جياشة: أنا "بموت" عليك، أنت روحي!

طرب لكلماتها وانطلق خارجاً لإكمال لعبة كرة القدم مع ابناء الجيران، تعلو وجهه ابتسامة عريضة. تذكرت فجأة صينية الدجاج مع البطاطا التي وضعتها قبل ساعة ونصف في الفرن، انطلقت راكضة للاطمئنان عليها، حمدت الله عندما وجدتها لم تحترق بعد!

سمعت فجأة صوت انفجار عنيف هز أركان منزلها الصغير، حتى خُيل إليها أنه سينهار فوق رؤوسهم، سيطر القلق عليها، وتدفق سيال عاتي من الأفكار حول سبب الصوت ومصدره، وبسرعة توجهت للخارج باحثةً عن صغيرها، وجدته ملقى على الأرض ووجهه مغطى بالدم، صرخت بقوة وضمته إلى صدرها... فإذا به يلتقط أنفاسه بصعوبة...

كان جسماً مشبوهاً هو الذي انفجر فيه، بعد أن ركله بقدمه إلى الأعلى... خلَّف انفجاره جروحاً عميقه في ساقه ووجهه، وأفقده البصر في كلتا عينيه... فاستحالت الدنيا في ناظريه ظلام دامس... واصطدمت نفسه فجأة بواقع جديد، مرير ومؤلم...

تقبلت تماماً ما حدث، بل حمدت الله وشكرته، ورأت فيه ابتلاءً من الله، فرغم أن زوجها أسير محكوم بالسجن المؤبد، وابنها الأكبر شهيد، وها هو ذا صغيرها يفقد البصر إلى الأبد... إلا أن عزيمتها لم تضعف، بل صممت أن تجعل منه إنساناً ناجحاً مميزاً مهماً في مجتمعه. وهذا هو قدر المرأة الفلسطينية المسلمة المقاوِمة دائماً، فلا مكان للضعف لديها... ولا مكان للهزيمة... إنما النجاح في مهمتها الجهادية هو الخيار المطروح أمامها فقط...

دعمته نفسياً بكل ما أوتيت من قوة، وأخذت تشحن نفسه بالقوة والعزيمة والإصرار والإيمان بالله... علمته كتاب الله حتى حفظه عن ظهر قلب، وتعلمت هي لغة "بريل" وأخذت تعلمه إياها... حرفاً بحرف وكلمة بكلمة... بل أخذت تطبع بنفسها الحروف والكلمات بتلك اللغة، لتكوِّن النصوص التي تريده أن يقرأها ويتعلمها... تبذل الكثير من الجهد في تعليمه، وفي أداء مسؤوليات البيت والأسرة، فلديها ثلاث بنات بحاجة للكثير من الوقت والجهد أيضاً.

كان يسيطر على نفسه أحياناً حزن عميق، عندما يجد نفسه مختلفاً عن غيره من الأطفال، فقد كان يسمعهم يلعبون كما كان يلعب من قبل... أما الآن فلا... فهو إما أن يتعثر في حفر الشارع إن أراد الخروج، أو أن يتعرض لضربات كراتهم.

قدمت له على مدار سنوات طويلة كل ما تستطيع من حب وعناية وتحفيز دائم وشحذ لهمته، علمته الإصرار والمثابرة ونجحت في غرس حب العلم في نفسه، كان همها دائماً أن تجعله يعتمد على نفسه ويحل جميع مشكلاته بنفسه، لدرجة أنها كانت كثيراً ما تبكي لشعورها بأنها تقسو عليه كثيراً... ولكنها كانت تخاف إن ماتت هي، أن لا يجد من يعتني به، لهذا لا بد له من أن يعتمد على نفسه تماماً.

شب الصغير شغوفاً بالقراءة ومعلقاً قلبه بالمساجد... فقبل كل صلاة كان يجلس يتلو القرآن بصوت عذب حتى الإقامة، فيصلي ثم يتحسس الطريق بعصاه عائداً إلى البيت.

مرهف الحس جداً نشأ هذا الصغير... لمست فيه حبه للأدب، وبدأ رحلته في الكتابة الأدبية في الرابعة عشرة من عمره، بعد عامين، عرضت كل ما كتب على أستاذ جامعي للغة العربية، ليقوِّمه ويوجهه...

في نهاية الصفحة الأخيرة من كتابات صغيرها الأعمى الذي غدا شاباً يافعاً، كتب الأستاذ ملاحظة جعلتها تطير فرحاً وتشعر أن الله قد عوض صبرها وتعبها في السنوات الماضية.

الملاحظة هي" ها أنا ذا أشهدُ مولد أديب جديد، أتوقع له مستقبلاً واعداً... قدماً وإلى الأمام...".

د. زهرة وهيب خدرج


في أقبية التحقيق

في أقبية التحقيق

صدر أمر باعتقالي... طوقت الدار في ليل مظلم... وقبل أن يطرقوا الباب كانوا قد تسوروا البيت فإذا بهم في غرفة نومي... وخزني أحدهم بطرف بارودته... صارخاً بي: أفق يا هذا... فتحت عيني على مضض لأستيقظ من الكابوس الليلي الذ ألم بي لأجد أنني استيقظت على الكابوس ولم أستيقظ منه... فالكابوس أمامي... طبعاً لا أدري من هؤلاء أو ماذا يريدون مني... ملابسهم وأسلحتهم تخبرني أنهم قوات أمن... هذا ما أدركته لتوي...

استيقظت أمي على الجلبة التي أحدثها هؤلاء في البيت صرخت بهم بشجاعة: من أنتم وماذا تريدون... اخرجوا من هنا... قابل أحدهم صراخها بصراخ أعلى منه، آمراً إياها بالانزواء جانباً وعدم التدخل... وأعقب قائلاً: اسأليه ماذا فعل وستعرفين بنفسك ماذا نريد منه.
لم يتركوا لي فرصة استبدال ملابسي، فالجو في الخارج شديد البرد، وأنا أنام كعادة الكثير من الناس بملابس النوم الخفيفة... كانوا متسامحين جداً وإنسانيين عندما سمحوا لي بوضع الحذاء في رجلي والذهاب إلى الحمام لقضاء حاجتي...

عصبوا عينني وقيدوا يدي برباط بلاستيكي رفيع أحكموا شده على يدي لدرجة أحسست معها أنه بدأ يخترق لحمي من اللحظة الأولى لوضعه... اقتادوني خارج البيت، واركبوني سيارة يفتح بابها من المؤخرة... أدركت أنها سيارة عسكرية... عصفت أفكار كثيرة في ذهني... إلى أين يقتادونني؟ وماذا يريدون مني؟ ماذا حدث حتى يأخذونني في منتصف الليل بهذه الصورة؟ وما الأمر العاجل الذي استدعاهم إلى الإسراع بأخذي وعدم السماح لي بتغيير ملابسي؟

بعد مسافة ليست بالقصيرة أدركت من خلالها أنهم اقتادوني لمنطقة أخرى غير تلك التي أسكنها، دفعوني بقسوة للنزول من السيارة، التي لم أستطع تقدير ارتفاعها عن الأرض فكان ذلك سبباً في سقوطي أرضاً...

وبدأت جولات التحقيق والتعذيب من شبح وتعليق كما تعلق الشاة المذبوحة عند سلخها، إلى الجلد بالبربيش البلاسيتكي المرن، الذي كنت أشعر بكل ضربة منه تهوي عليَّ، وكأنها تنتزع أجزاءً من لحم ظهري وكتفيَّ وذراعيَّ  وتذروها في الهواء، وقبل أن أستطيع أخذ نفس قصير تكون الضربة الثانية والثالثة وغيرها قد اصطدمت بجسدي تعذبه لدرجة تفقده الإحساس والوعي أحياناً، ترافقها ألفاظ بذيئة وشتائم لم تترك لي لأمي أو لأخواتي عرضاً أو شرفاً...

وفي أحيان أخرى وبعد أن أهانوني بشكل لا يوصف، وحقَّروني، وعاملوني كأني حشرة لا يعبأ بموتها أحد، أرسلوا لي من يحدثني بهدوء واحترام، ليلعبوا بعقلي ومشاعري، فقد أخذ المحقق يوهمني بادعائه بأنه ليس كالمحققين الذين سبقوه، فهو يشفق لحالي، ويقدر ألمي ومشاعري، ويرفض لي هذا العذاب وتلك الإهانات... فهو هنا ليساعدني فقط لحرصه  الشديد عليَّ وعلى أن لا أتعرض للمزيد من التعذيب، ولأخرج بأقل الخسائر... حاول كثيراً اللعب بمشاعري عندما أخذ يذكرني بأمي التي تكاد تموت حزناً وكمداً عليَّ، ووالدي الضعيف الذي يحتاج وقوفي إلى جانبه وتلبية احتياجاته واحتياجات الأسرة... وزاد الطين بلة عندما أخذ يلعب على وتر بأن ما يحدث معي لا يرضه لابنه وأنا كأحد أبنائه...

ضغط عليَّ كثيراً لأعطيه المعلومات الخاصة بزميل وصديق لي في الجامعة، والتي لم يحضروني إلى هذا المكان إلا ليحصلوا عليها بأي الأساليب كانت، بالترغيب والترهيب والضرب والمكافئة... لا يهم الوسيلة التي تستخدم، المهم هو الحصول على المعلومة... هذه المعلومة التي لا تمسني أنا شخصياً وإنما تمس شخصاً آخر، فالمعلومة التي بحوزتي هي الحلقة المفقودة التي يبحثون عنها لتحكم السلسلة حلقاتها حول رقبة صديق الدراسة... فيتمكنوا من الإمساك به ليغدو لقمة سائغة في أفواه المحتلين...

منذ اللحظة الأولى للاعتقال تحديت نفسي بسؤالها، هل يا تُرى تكون رجلاً فتصبر وتتحمل الأذى وتصمد؟ تكون شجاعاً كما عهدك الجميع دائماً، فتغلق فاك ولا تثرثر بكلام مهما كان نوعه حتى لا تؤذي نفسك ولا تؤذي من نذر نفسه وروحه لله وفي سبيل الحفاظ على هذه الأرض والحفاظ على كرامة وعزة أهلها؟؟؟ أم ستكون ممن ينجو بنفسه ولتحترق الدنيا بعدي؟؟؟

عاهدت نفسي حينها على الصبر والثبات ، وطلبتهما من الله، وقلت لنفسي: أبداً لم تربني أمي على الجُبن والنذالة، ولن ترضه لي الآن، أنا مستعد لدفع روحي ثمناً للتغطية على مجاهد لم أشاركه يوماً في جهاده، ولكني سأشاركه اليوم في اقتسام أجر الجهاد بالتغطية عليه وتحمل كل شيء يبعد الأذى عنه...

د. زهرة خدرج


ماذا تقدم لأمتك؟؟

ماذا تقدم لأمتك؟؟


يقال إنه بعد الحرب العالمية الثانية شاعت بين اليابانيين مقولة: سأعمل لأسرتي 8 ساعات وسأعمل لليابان ساعة كل يوم، وجميعنا يعلم كيف تطورت اليابان وارتقت بعد الكارثة التي تعرضت لها بعد الهجوم النووي الذي قامت به الولايات المتحدة على اليابان، وأدى إلى تدمير مدينتي هيروشيما وناجازاكي، فاليابان لم تقعد مكانها ترثي الكارثة التي حلت بها، بها عمل شعبها بإخلاص وجد حتى عادت مرة أخرى كما كانت... بل أفضل مما كانت.

ونحن الفلسطينيون، أبناء الإسلام ماذا نقول؟ ماذا سنقدم لفلسطين لترتقي؟ وماذا سنقدم للإسلام لنعيد له العزة ونعيده قائداً للأمم؟ لا تقل وماذا يجدي جهدي، ما أنا إلا فرد واحد، رجل كبير في السن، أو امرأة في بيتها، أو طالب مدرسة أو جامعة، أو صبي في لهوه، أو شاب يسعى وراء رزق عياله... الخ... لا تقل هكذا، مهما كنت، وأينما كنت، ومن تكون، لا يهم كل ذلك... لا تخلي نفسك من المسؤولية...
فالأمة بحاجة لك ولجهودك... فماذا قدمت وتقدم لها؟ أتتقن عملك؟ أتربي أبنائك على الصلاح والفلاح وحب الدين والوطن؟ أتطلب العلم لله ولرفعة الأمة والوطن؟ أتشغل عقلك لينتج أفضل ما يمكنه لمنفعة الأمة؟ أتحفظ القرآن وتتعلمه وتطبقه في حياتك لله؟ أتقرأ وتتعلم السنة النبوية وتحيي السنن وتحض من حولك على إحيائها؟ أتصاحب الصالحين لتصلح بصلاحهم؟ أتتقرب من أهل الله حباً في الله وأهله؟ أترتدين أختي اللباس الشرعي الذي لا يصف ولا يشف وغير ملون أو مزركش أيضاً لله؟ أتطيعين أختاه زوجك وتتحببين إليه لله؟ أتحسنون إلى جيرانكم وتحافظون على شوارع نظيفة خالية من القاذورات والأذى لله؟ ماذا تقدمون لأمتكم؟؟ وما أكثر الأشياء التي يستطيع كل منا تقديمها لله وللأمة ليرقى المجتمع الإسلامي وينهض، حتى وإن كنت معدوم الإمكانيات، فابتسامة لطيفة تلقى أخاك بها وتجعل نيتك لله، لا تكلفك شيء، ولكنها ستسعد قلبك، وإلقائك السلام في الشارع على من تعرف وما لم تعرف أيضاً ليس بحاجة لإمكانيات مادية، ومساعدة طفل ليقطع شارع مزدحم بالسيارات لا يكلفك شيء ولا يضيع وقت... وما أكثر الأشياء البسيطة التي يمكننا عملها، ويكون لها عظيم التأثير في المجتمع الإسلامي.

بالله عليك... فكر دائماً وأشغل نفسك بهذا... لا تعش لنفسك فقط، لا تعش لتتعلم وتعمل وتتزوج وتنجب ويكون لك بيت وسيارة وأبناء متعلمين أغنياء... لا ضير في أن تمتلك ذلك... ولكن لا تعيش وتمضي حياتك لأجل تلك الأشياء فقط...
اجعل هموم امتك في دقائق حياتك، واجعل ما يعلي شأنها في أولوياتك المتقدمة... ولا تنسى بأنك ستقف في يوم من الأيام القادمة بين يدي الخالق فيسألك عن واقع الأمة البائس، ما الذي فعلته لتغيره للأفضل...

وتذكر... ليس من أمة الإسلام من يقف متفرجاً على ما يجري، مكتفياً بالحزن اللحظي وذرف بعض الدموع عندما يشاهد مناظر القتل والدمار والتشريد التي تقشعر لها الأبدان، أو يشعر ببعض الأسى عندما يشاهد تأخرنا وتقدم غيرنا من الشعوب غير المسلمة، بينما تراه يعيش باقي أوقات حياته وكأن شيئاً لم يكن... فتجده لا يشعر بمصائب الأمة إلا إذا أصبحت في عقر داره، فينطلق حينها صارخاً قائلاً: أين العرب؟ أين أمة الإسلام؟ كما يتكرر من مشاهد في كل يوم حيث تبقى الأمة نائمة ولا تستيقظ إلا عندما يلسعها لهيب النيران، وضرب السياط.

ويدمي قلبي أكثر أن أجد منا من يرفض متابعة أخبار العالم الإسلامي وما يحل به من مصائب بحجة أن قلبه ضعيف لا يحتمل تلك القسوة، فيحجب نفسه عنها ويعيش حياته بشكل عادي جداً متناسياً أن النار التي تحرق محيط الدائرة لا بد وأن تمتد إلى داخلها...
وقبل أن أغادركم أقول: ليفكر كل منا بما يستطيع تقديمه للأمه، وكونوا على ثقة أنكم تملكون الكثير... فقط الأمر بحاجة لهمة وعزم.


د. زهرة خدرج

لماذا يُبتلى أهل الحق؟

لماذا يُبتلى أهل الحق؟
أَسمع على ألسنة المسلمين كثيراً هذه الأيام وخاصة مع كثرة الفتن والابتلاءات التي يتعرضون لها القول: ألسنا مسلمين وأهل حق؟ لماذا لا ينصرنا الله على الباطل وأهله؟ لماذا تغيرت الموازين وبات أهل الحق مستضعفين مهزومين لا يُخاف لهم جانب... تنتهك أعراضهم، وتسلب بلادهم، ولا تحترم لهم حُرمة؟ جميع الناس لهم حقوق تحفظ حتى الحيوانات... إلا نحن، دمنا حلال، وعرضنا رخيص، وبلادنا مستباحة. فما الذي يحدث؟ هل انقلبت المعايير؟ وهل تخلى الله عنا؟

أبداً إن المعايير وسنن الله ثابتة لا تتغير. كيف يمكن أن نَصِفَ أهل الحق بأنهم أهل حق وبأنهم يستحقون هذا المسمى بجدارة، دون أن يُفتَنوا ويبتلوا فيصبروا ويصمدوا ويبقوا على الحق ويثبتوا في طريقه؟ المشكلة أن الكلام سهلٌ جداً ولكن التنفيذ والثبات يكون صعباً جداً، ألم يقل رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم:« حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» فهل يمكن لمن يقول أنه من أهل الحق أن يحوز الجنة بثمن رخيص ودون أن يدفع ضريبتها الغالية؟ فكيف ستحصل عليها من دون ابتلاءات وفتن وأذى يلحقها صبر وتحمل وثبات؟ وكيف للنصر أن يأتي دون أن يُعَبِّد الصبر والثبات له الطريق؟ ألم يقل الله عز وجل في سورة البقرة: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ وراجعوا التاريخ... هل مر زمان على البشرية ظل  فيه الحق مرتاحاً يتعبد في صومعته دون أن يتعرض للابتلاء والتمحيص؟

وما دام طريق الحق هو طريق الابتلاء والمحن والصبر... فما يحدث لنا اليوم ما هو إلا جزء من السلسلة الممتدة من عمر الإنسان على هذه الأرض، أليس طريق الحق هو الطريق الذي تعب فيه آدم بعد أن غادر الجنة, وهو الطريق الذي لأجله؛ أوذي نوح ولوط, وأُلقي بإبراهيم الخليل في النار, ووضع يوسف في غيابة الجب، وعانى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الفقر والجوع والحصار والمقاطعة وأذوي في عرضه... ألم يقل الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [سورة العنكبوت2- 3]، فما يحدث لنا هذه الأيام طبيعي جداً أن يحدث، ليتبين الغث من السمين، وحاشى لله أن يكون قد تخلى عن عباده الصالحين.

والسؤال الذي يجب أن يسأله كلٌ منا لنفسه: هل نستحق الآن النصر حتى ينصرنا الله؟ أنا أشك في ذلك! فلنراجع حساباتنا، ماذا فعلنا ونفعل لنستحق النصر؟ ألم تستحوذ الدنيا ومتاعها الزائل على عقولنا وقلوبنا، ولنتذكر ولنتعظ من المحن التي تعرض لها المسلمين في تاريخهم. عندما تعرضت الدولة الإسلامية للغزو المغولي في عهد الدولة العباسية سنة 656هـ ، اجتاح التتار بلاد المسلمين بأسرها ولم تبق الاّ القلّة القليلة لم تقع تحت احتلالهم، فطغوا وأمعنوا في القتل والنهب والإحراق بهمجية غير معهودة، وقد رويَ أنّ بنت هولاكو كانت تمشي في شوارع بغداد، فرأت جمهرة من النّاس يلتفّون حول رجل، فقالت لمن معها:" من هذا الرّجل الذّي يلتفّ النّاس حوله؟ "فقيل لها:" هو عالم من علماء المسلمين". فطلبت ممن معها أن يأتي به مكبل اليدين والقدمين، وجيء به على هذه الهيئة التي طلبتها، ووضع أمامها، فقالت له:" ألم نهزمكم؟"، قال:" بلى "، قالت:" ألم ننتصر عليكم؟" قال:" بلى"، قالت :" إذن، فنحن أحبّ إلى الله منكم!" ، فقال لها :" لا "، فقالت :" ولماذا تقول ذلك " قال لها :" لا أقول لك حتّى تفكّي قيدي وتنزليني من مكاني وتضعيني في مكان أستحقّه وتعطيني الأمان على كلامي الذي سأقول"، ففعلت فقال لها:" ماذا يكون مع الرّاعي حين يقود قطيعا؟"، قالت: يكون معه كلاب". قال لها:" ماذا يفعل الراعي عندما يشرد القطيع من عنده" قالت:" يرسل خلفها الكلاب"، قال لها:" إلى متى؟"، قالت:" حتى ترجع الكلاب بالقطيع إليه"، فقال لها:" أنتم كلاب الله ، أرسلكم الله علينا لأننا شردنا عن دينه، فستبقون مسلطين علينا حتى نرجع إلى ديننا!".


د. زهرة خدرج

عندما تغلق كل السبل... ما هو الحل؟

عندما تغلق كل السبل... ما هو الحل؟

عندما يصبح كبت كل صوت مطالب بنوع من الحرية مهما كانت حق شرعي لبني البشر، هو سيد الموقف وقائده، كيف سيصبح عليه الحال؟ عندما يتم الانقلاب على من استلموا دفة الحكم من خلال صناديق الاقتراع (التي أصبحت الديموقراطية توزن بميزانها)، فيسجَنون ويحاصَرون ويحارَبون ويقتَلون، لا لجريمة ارتُكبت، ولكن لأن هناك قوانين وقواعد لقيطة أقرت بأن القيادة والصدارة محرمة على الإسلام وأهله، فتارة تلصق بهم تهمة البدائية والوحشية فهم لا يصلحون للقيادة في عصر التكنولوجيا والتقدم، وتارة يتهمون بالتطرف، وتارة أخرى بالإرهاب... ولم يقف الحال هنا... بل ما زال في انزلاق حثيث إلى الأسفل، فمن حال سيء إلى حال أسوء وأقسى وأكثر فتكاً وإمعاناً في الأذى منه! وتجاه هذا الحال، ماذا سيكون الحل؟

عندما يُعتَدى على نصراني أو يهودي تلصق التهمة مباشرة بالمسلمين حتى قبل أن يتم التأكد من الفاعل، وتدرج القضية تحت مسمى الإرهاب والتطرف، ويبدأ القريب قبل الغرباء بالعزف على موشح خطر المتطرفين والإرهابيين الذين اتخذوا من الدين عباءة يتسترون بها أمام جرائمهم، بينما إذا كان المعتدى عليه مسلم، طفلاً كان أو امرأة أو بيتاً يعود لمسلم أو شجرة في أرض المسلمين، فإن الألسنة تخرس عن الكلام وتهجر الكلمات أصحابها، فتعجز الأفواه عن النطق فلا تنديد ولا تهديد ولا تهم... بل تسمى بأبسط المسميات وأقلها وقعاً على النفس، فيعتبر المعتدي مريضاً نفسياً أو عصبياً بطبعه أو ربما مدافعاً عن نفسه وربما أصبح أيضاً مدافعاً عن الإنسانية وحقوقها باعتدائه هذا... وأمام هذه الازدواجية في المعايير والمكاييل... كيف برأيكم يكون الحل؟

أُحرق التيار الأردني، قامت الدنيا ولم تقعد، فتغيرت قواعد اللعبة ووُضعت مخططات كاملة للأخذ بثأره والقضاء على قتلته، ونسي الجميع، بل تناسوا أن عائلات غزية بأكملها؛ بأطفالها ونسائها وشيوخها قد أُحرقت في حروب غزة الثلاث، وهدمت البيوت والعمارات فوق رؤوس ساكنيها حتى غدا الركام قبوراً لهم. ولغزة ولأهلها، لم تقف قوى العالم من غربيين أو عرب على السواء، ولم يتصدوا لإسرائيل حينها ويصفونها بالإرهاب، ولم يشكلوا تحالفاً دولياً لحماية أطفال غزة من بطش الصهاينة، وللقضاء على بني صهيون وإجرامهم.

كما نسي العالم أيضاً مجازر ميدان رابعة العدوية، ونسوا الجثث المتفحمة التي أُخرجت من تحت ركام خيام الاعتصام، ولم يوصف حينها عسكر مصر الانقلابيين بالإرهاب أو التطرف لأن التطرف ثوب مفصل فقط للإسلاميين، فهو لا يتسع لغيرهم، ولم يتحرك أحد ممن يصفون أنفسهم بالديموقراطيين لرفع الظلم عن هؤلاء الأبرياء.

كما ويتجاهل العالم أيضاً المجازر اليومية التي يحرق فيها شعب سوريا وأطفالها ونساءها بالبراميل المتفجرة التي لا تُبقي ولا تَذر، وأيضاً لم يكلف أحد "ممن يتصدرون الشعوب المتقدمة أو حتى العربية" نفسه عناء نصرة هذا الشعب المبتلى... وفي أكثر حالات الضيق... تراهم يُعربون عن قلقهم إزاء ما يجري... ويا ليت القلق يأوي طفلاً مشرداً أو يعالج جريحاً أو يطعم جائعاً أو يستر امرأة مات عنها زوجها أو حتى يكفن ويدفن جثة محروقة ...

أما الطفل المقدسي "محمد أبو خضير" بلبل الفجر الرمضاني، الذي لا بواكي له، والذي سقاه المستوطنون الصهاينة البنزين، وسكبوه على جسده، وأحرقوه حياً، وألقوه جثة متفحمة... فلم يعبأ العالم به، ولم يقلق لما حدث له، كما لم يشجب أو يستنكر أو يقف دقائق صمت وحداد، ولم ينطلق رؤساء الدول في مظاهرات رافضة لحرقه منددة بما جرى له، ولم ينْصَب اهتمام جميع صحف العالم والمحللين السياسيين والكتاب في قضية حرق أبو خضير حياً، صحيح أن بعض الصحف تناولت الحديث عنه، ولكن دون أن تطلق بكائيات طويلة ورثائيات يدونها التاريخ رفضاً لما حل به. أما قوانين الطفولة وحقوقها فقد تجاوزته، وأسقطته من سجلاتها، ولم تعتبره خرقاً يعاقب عليه القانون... لأنه مسلم فلسطيني... فلو كان مستوطن يهودي، لاختلف الأمر، فحينها تطبق القوانين، وتتغير المسميات، ولتوجب وضع حد للإرهاب والتطرف، ووقف خطره المستشري.

وأمام جميع هذه الأحوال وغيرها الكثير الكثير من المتناقضات المقززة الشاذة، والسبل المغلقة، والمستقبل المظلم، والمكاييل المختلفة التي يُكال بها حسب اختلاف الجهة التي تقوم بالشراء... أستحلفكم بالله... ما هو الحل برأيكم؟




د. زهرة وهيب خدرج

حكايتي مع لغة الجسد

حكايتي مع لغة الجسد

أحياناً كنت أشعر ببعض الناس لا يتعاملون معي بالشكل مقبول، وكنت أخبر زوجي بذلك، فكان يسألني إن كانوا قد تلفظوا بكلمات تسيء إلي، فكنت أجيبه بالنفي، ولم أكن أمتلك حجة على ما أقول، كان مجرد شعور ينتابني دون أن أستطيع تفسيره. إلى أن درست لغة الجسد كمساق دراسي في دكتوراه تنمية الموارد البشرية، فوجدت فيه ضالتي المنشودة؛ فبعد دراسة المساق؛ تشكلت لدي فكرة جيدة عن هذا العلم الذي جذبني إليه بشدة ومكنني من فهم مشاعر الناس واحتياجاتهم من دون أن يتلفظوا بأية كلمة، فقط من خلال الإيماءات التي تطلقها أجسادهم.
لشدة إعجابي بهذا العلم قمت ببناء خطة لأطروحة الدكتوراه تحت موضوع لغة الجسد، وصغت فرضيات البحث، وأخذت الموافقة من المشرفين عليها، ثم انطلقت أدرس هذا العلم بنهم... درسته قبل أن أبدأ بإجراء تجاربي لمدة تزيد عن العام... فلم أترك مقالاً أو كتاباً أو بحثاً يدخل في صلب موضوع لغة الجسد أو يتناولها بشكل عابر، باللغة الإنجليزية إلا واطلعت عليه ودونت ملاحظاتي، حتى أصبح المشرفون على دراستي يطلقون عليَّ لقب "خبيرة لغة الجسد" بل ويستفتونني في بعض الإيماءات والمواقف التي تحيرهم.
اكتشفت بعد الغوص العميق في موضوع لغة الجسد أنني أصبحت أكثر تأثيراً فيمن أتعامل معهم من الناس، حتى أولئك الذين أحادثهم تلفونياً، تضاعفت قدرتي على إقناعهم بما أريد. وامتلكت مهارات أكثر في نشر أفكاري وقناعاتي وإيصالها للآخرين... كما وزاد فهمي لما يريده الناس وما يشعرون به تجاهي أو تجاه أنفسهم أو تجاه بعضهم... أصبحت أدرك الكثير عنهم بمجرد أن أراهم يتكلمون... فأعرف متى يكونوا في أكثر لحظاتهم صفاءً وصدقاً وأعرف أيضاً متى يكذبون... أعرف إن كانوا يتظاهرون بالشيء أم أنهم يشعرون به حقيقة في داخل قلوبهم...
قالوا لي: اخترت علماً سيسبب لك المتاعب، فأن تعرفي حقيقة الشيء الذي يحاول صاحبه إقناعك بعكسه هو شيء لا تحسدين عليه...
حدثت معي العديد من المواقف التي كنت أرى التناقض السافر بين ما يقوله لسان الشخص وما يقوله جسده... ففي إحدى المرات التي كنت فيها متوجهة لعملي وكانت الوقت مبكراً، كنت أريد ترك أمانة صغيرة لشخص ولم يكن قد بدأ دوامه بعد، ولم أكن أستطيع الانتظار وإلا فسأتأخر عن عملي، سألت شخصاً كان يفتح محله التجاري بالقرب من مكان عمل الشخص الذي أقصده، إن كان يعرف فلان، وسميت له الشخص المطلوب... فأجابني بالنفي وهو يوجه نظره إلى مكان عمل الشخص المطلوب... استلمت الرسالة التي وجهتها عيناه لي والتي كذبت لسانه...
من المواقف التي كنت أصيح حنقاً بسببها وأقول: (ما أطول لسانه!) عندما كنت أقرأ إيماءات الكذب أو القلق أو الاضطراب لبعض الشخصيات السياسية (التي لا داعي لتسميتها هنا)، في مواقف كانت ألسنة تلك الشخصيات تنطق بنقائضها. فبعض هؤلاء كان يهدد بلسانه بينما ترتعد إيماءات جسده قلقاً واضطراباً مكذبةً ما يقوله لسانه.
في الدورات التدريبية الكثيرة التي أنفذها خلال عملي أعلم تماماً متى سأم الجمهور ويحتاجون لاستراحة، ومتى صدموا مما أقول فعليَّ أن أسترسل في سرد فكرتي، ومتى يحتاجون للمزيد من البراهين والدلائل لإثبات ما أقول، ومتى هم لا يتفقون معي، لدرجة أنني أصبحت أحياناً أتوقع ماذا سيقولون حتى قبل أن يرفعوا أيديهم لمقاطعتي.
علمي في لغة الجسد فتح أمامي أبواب جديدة جعلتني أفهم الإنسان أكثر وأكثر، فعندما درست التمريض في البكالوريوس تعلمت الكثير عن الجسد الذي نمضي حياتنا محتجزين داخله، وفي الماجستير تعلمت عن البيئة التي تحيط بنا فنؤثر فيها وتؤثر فينا، وجاءت لغة الجسد لتكمل الناحية الثالثة التي كنت أجهلها وهي نفس الإنسان ومشاعره واحتياجاته.
"فسبحانه، علم الإنسان ما لم يعلم!"

د. زهرة خدرج