الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

بين يدي رجل

بين يدي رجل

كانت محط أحلامه منذ صغره... منذ بدأ يعي ما يدور حوله... منذ أدرك ماذا يعني وطن... وماذا تعني فلسطين... كانت تزوره في خياله... تداعب ناظريه وقلبه ولكنها سرعان ما تختفي بسرعة البرق... ما أروعها... ما أطيب رائحتها... يخفق قلبه بشدة بمجرد أن يتذكرها... كم تمنى لو تصبح بين يديه... لو يمتلكها... يلمسها... ينتشق عبيرها... ويضغط على زنادها فينطلق صوتها الأبي مزغرداً في سماء الكون...

لم يكن الحصول عليها مجرد أماني تسبح في خياله وهو مستلقٍ على الأرض في ظل شجرة البرتقال... بل حلم تحول إلى مولد للطاقة والجهد، يعمل لساعات طويلة في قطف البرتقال في موسم القطاف، وبالعناية بالأشجار في بقية أوقات العام بأجر زهيد، ليجمع بعض المال، فينفق بعضه، ويوفر ما تبقى مهراً ليتسنى له أن يتقدم لخطبتها...

واكتمل المهر... وتمت الصفقة... وها هي ذا في بيته بين يديه... لا يكاد يصدق نفسه... تلمسها ليتأكد أن وجودها بين يديه حقيقة وليس حلماً... ما أنعم وجهها البارد!

وجودها معه قلب حياته رأساً على عقب، فقد أهمل عمله، حيث أخذ يغيب لساعات طويلة كل يوم في منطقة أحراش نائية، يتدرب على استعمالها وإصابة الهدف فيها، إعداداً للمرحلة القادمة والخطة الحاسمة التي سيثأر فيها لفلسطين، ووالده الشهيد، وأخيه الأسير، وأرضهم المصادرة، وأمه التي قضت قهراً وحزناً، فلم يتبق له أحد من أسرته يؤنس وحدته... إذن ليس ثأراً واحداً وإنما خمس...

بعد الليلة الأولى التي قضتها في بيته وآنست وحدته، لم يعد يستطيع اصطحابها لتعود معه في نهاية كل نهار... فالخطر بها محدق... فالعيون كثيرة ترقب كل شاردة وواردة... ولحرصه عليها... أنشأ لها مكمناً تختبئ فيه حتى عودته إليها...

خلال ذهابه وإيابه كان يرقب المستوطنة التي تجثو كالقبر على أراضي القرية، وتمتد كالسرطان الخبيث بسرعة كبيرة. ويرسم خطط وسيناريوهات مختلفة لعملية جهادية فردية يقوم بها، ويشعر أنها باتت محور حياته... انتظر فترة طويلة حتى اجتمعت كل الظروف المناسبة للتنفيذ، وعلى رأسها وجود حبيبة قلبه تشاركه بطولته... تنجو معه إن نجا... وتستشهد إلى جانبه إن كتب الله له الشهادة...

حانت ساعة الصفر لبدء تنفيذ الخطة... انطلق إلى مكمنها مع بزوغ خيوط الفجر الأولى... صلى الفجر وهو يعتليها على كتفه... وانطلق داعياً الله أن يوفقه ويسدد رميه... اجتاز بفضل الله حواجز عدة بنجاح، بعضها مكهرب... وبعضها شائك حتى تمكن من الوصول إلى الهدف المنشود... قفز داخل السور... وتسلل إلى شرفة المنزل وفتح قفلها بطريقة تدرب عليها جيداً في أوقات مضت دون أن يحدث أي صوت يثير الشبهات...كان من في البيت يغطون بنوم عميق بعد أن رقصوا وسكروا في الليلة الماضية حتى ساعة متأخرة، كعادتهم ليلة السبت...

ربما تتساءلون: هل اختياره للمنزل كان محض صدفة أم أنه كان عملاً مدروساً؟ وإذا كان مدروساً لماذا هذا المنزل تحديداً؟
اختار هذا المنزل تحديداً دون غيره لأن ساكنه ضابط شرس في جيش الاحتلال عُرف عنه عداؤه الشديد للفلسطينيين أصحاب الأراضي المصادرة فكان لا يكف عن إيذائهم والتضييق عليهم، أما زوجته فقد كانت مجندة بذيئة اللسان عدوانية جداً لطالما آذت أهل قريته خلال قطفهم لأشجار الزيتون التي تقع بالقرب من المستوطنة.

أصبح بعد لحظات في وسط المنزل، توجه لغرفة النوم التي كان بابها مغلقاً... فكر بأن يفتح الباب ويدخل إليهما، ولكن ربما يستيقظان ويطلقا النار عليه فيقتلانه دون أن يحقق هدفاً، ولكنه عدل عن هذه الفكرة، فتناول عبوة زجاجية كبيرة الحجم كانت بالقرب منه... قذف بها على الأرض، فتناثرت قطعها محدثةً دوياً عالياً، وفي نفس اللحظة أخفى نفسه وراء عمود في وسط البيت... هب الضابط فزعاً إلى خارج غرفة نومه، ليستطلع الأمر ومسدسه بيده، فأطلق مجاهدنا النار عليه مصوباً إلى رأسه، فأرداه قتيلاً، فما كان من زوجته إلا أن أطلقت وابلاً من الرصاص تجاه مجاهدنا فأصابته إصابات متعددة في أنحاء مختلفة من جسمه... وقبل أن يقع أرضاً تمكن من إطلاق رصاصة أصابتها إصابة بالغة قتلتها بعد أيام... وارتقى هو شهيداً إلى ربه... وسقطت حبيبته إلى جواره أرضاً... بعد أن غطتها دماؤه النازفة.


د. زهرة وهيب خدرج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق