امرأة
تركت صداها في نفسي
"أمينة
قطب" الشاعرة والأديبة المصرية التي نشأت في أسرةٍ ملتزمة ربت أبناءها على الدين
والصلاح... وعاشوا تجارب الجهاد والثبات... والألم والفقدان والصبر... فقد اعتقلت أمينة
في السجن الحربي، وأوذيت كباقي أفراد الأسرة، فصبرت على ألم القيد... وصبرت على ألم
الفقدان عند استشهاد أخيها الأديب والمفكر والكاتب الإسلامي العملاق "سيد قطب".
شغفت
أمينة منذ بداية حياتها بالشعر، حتى أنها كانت تعطيه الأولوية على دروسها، وكان الجو
من حولها يغذي ذلك الشغف بالأدب والشعر.. فشقيقها سيد قطب أديباً وكاتبا، وشقيقها محمد
قطب شاعراً وكاتباً أيضاً. أخذت أمينة تحاول نظم الشعر إلا أن محاولاتها في البداية
لم تصل إلى المستوى المقبول، فاتجهت إلى كتابة القصة القصيرة، إلا أنها استمرت في قراءة
الشعر، خاصة مع التشجيع من أخيها سيد على المضي قدما في هذا المجال، ونقده لكتاباتها،
وتوجيهاته الأدبية لها، وتعريفها بمسالك ودروب الشعر والأدب الذي رأى أنها قادرة على
مواصلة السير فيه، ورعايته لمحاولاتها الحثيثة، ليُخرج منها أديبةً ملتزمة، يُعِدها
للمرحلة الصعبة التي تراءت أمامه في الأفق البعيد... فهذا هو الوقت المناسب للإعداد
في هذه الفترة التي تميزت بالهدوء الذي لن يكون هدوءً دائماً، بل عَلِم بفراسته واستقرائه
لما يجري من أحداث أن هذه الفترة ستكون الهدوء الذي يسبق العاصفة... فلم تقتصر توجيهاته
على أمينة وحدها بل اجتهد فيها مع جميع أشقائه، ليُخرِج من أحاسيسهم المرهفة كتابات
أدبية تكون ذخراً للإسلام يُعِدوها لحين الحاجة إليها... وليحافظ على كتاباتهم لتكون
أدباً ملتزماً مصبوغاً بالصبغة الإيمانية، وأن يضبط تصوراتهم وأحاسيسهم ومشاعرهم لتكون
بعيدة عن تصورات الجاهلية واتجاهاتها في التعبير في النثر والشعر... ولم يقف عن أداء
هذا الدور حتى في أحلك الظروف التي مر بها عندما كان محتجزاً خلف قضبان السجن... يعاني
الظلم والقهر...
كتبت
أمينة الأديبة، والشاعرة، في مجالات أدبية عدة ونشرت عدداً من أعمالها في مجلات أدبية
صدرت في القاهرة، قبل أن تتعرض الحركة الإسلامية في مصر للابتلاء.
تزوجت
أمينة من المجاهد السجين كمال السنانيري، الذي ما لبثت أن فقدته شهيدا. فالطريقة والتفاصيل
التي تم فيها عقد وطقوس الزواج ترسم صورة أخرى من صور تحدي الطاغية، الذي عزم على القضاء
على دعاة الإسلام بشتى السبل؛ فبالقتل إن أمكن، وإهدار الأعمار بين جدران الزنازين
والعزل الانفرادي في أغلب الحالات، ومحاولاتٍ حثيثة ومستمرة لمحو كل أثر لهم في المجتمع،
وإنكار وجودهم وأدنى حق من حقوقهم...-وكما هي عادة الحق- يأبى دعاته التسليم بالأمر
الواقع... ويرفضون التهميش... بل ويفرضون أنفسهم ومبادئهم بأشكال شتى... فتكون الهزيمة
من نصيب الطاغية في النهاية...
وتَم
عَقدُ الزواج... من وراء القضبان... ما بين كمال السنانيري الذي كان يقضي فيه حكماً
ظالماً بالأشغال الشاقة المؤبدة (25 عاماً)،لم يمضي منها سوى خمس سنوات، وأمينة قطب؛
الشابة الفتية الملتزمة دينياً... المثقفة...الأديبة... وزواج كهذا معناه أن هذه الفتاة
ستمضي ما يقارب عشرون عاماً تنتظر اللقاء بزوجٍ مغيبٌ قسرياً وراء أسوار السجن... ولكنها لم تتردد في المضي قدماً
في الزواج... بل أصرت عليه... لتعيد الأمل لكل مجاهد يقاسي ظلمة الأسر... فهو هناك
داخل زنزانته... يقضي دقائق وثواني العمر في ظلمة الأسر بعيداً عن دفء الشمس والحرية
وكل معنى جميلٍ مشرقٍ من معاني البشرية... وجريمته التي ارتكبها... أنه اختار طريق
الحق ليسير فيه ويقول: لا للطاغية...!!
وتمضى
الليالي بتثاقل... الليلة تلو الأخرى... ولا يحس ببطئها مثل من يعاني من ألم الانتظار...
ويرسل كمال لأمينة رسالةً يفتح لها إمكانية الانفصال عنه بسبب طول فترة بعده عنها التي
لا خيار له بها... فترد أمينة بأنها مصرَّة على المضي قدماً في هذا الطريق إلى
جانب خطيبها الأسير.
وتنقضي
سبعة عشر عاماً، ليفرج عنه عام 1976م ، ويخرج ليواصل مع أمينة رحلة الوفاء والكفاح،
ليتمَّ اللقاء والزواج، وليعيشا معاً أحلى سنوات العمر، ولم يُقدر لهما في سنوات زواجهما
القليلة أن ينجبا الأبناء، عساهم يكونون امتداداً لهم في دعوتهم... ولكن هذا قدر الله...
ومن عظيم كرم الله انه عوضهم عن أبناء الدم بأبناء العقيدة والدعوة... وتميزت فترة
ما بعد خروجه من الأسر؛ بالنشاط الدعوي المتواصل، فلم يركن إلى الدعة والراحة بعد معاناة
الأسر الطويلة التي مر بها وتحملها في صبر وثبات... فقد كان له دوره الجهادي العظيم
في أفغانستان، بعد تعرضها للغزو الروسي... عدا عن دوره الدعوي في مصر... فمن دأب الدعاة والمصلحين أن لا يتخلوا عن رسالتهم
التي يعيشون لأجلها... مهما عانوا من تبعاتها... ومهما لحق بهم الأذى في سبيلها
كما
هي عادة السعادة... فإنها لا تكاد تأتي حتى ترحل مسرعة، فتخالها أنها لا تستطيع الاستقرار
في مكانٍ واحدٍ طويلاً... إنما هي دائمة الترحال... فقبل نهاية عام 1981م، اختُطف الزوج
مرة أخرى وسجن مع كثيرين غيره من أبناء الحركة الإسلامية... وارتقي شهيداً -بعد بضعة
أشهر- تحت أصناف التعذيب والأذى التي لا يطيقها بشراً ... فكيف بجسدٍ نحيل كجسد الشيخ
كمال السنانيري الذي تجاوز الستين من العمر... ويشيع الطغاة أنه قد انتحر بشنق نفسه...
وعجباً منهم ومن أكاذيبهم... فمن صمد عشرين عاماً في سجنٍ مهين يتذوق من العذاب الأشكال
والألوان... ويقبل ذلك بثبات نفس، ورسوخ إيمان... هل يُصدق أنه يجزع لاعتقاله بعد ذلك
لفترة قليلة من الزمن، فيُقدم على قتل نفسه؟... وتُسَلم الجثة إلى الأهل على أن يوارى
التراب دون مراسيم جنازة أو عزاء...
وأمينة
الأديبة توظف الأدب (قصة وشعرا) في خدمة الدين والجهاد والمعاني النبيلة في الحياة،
فتوجه رسائلها الأدبية إلى السائرين على درب الدعوة تشد من أزرهم... وتبث الشعر العربي
مشاعر طالما آلمتها وأشعلت صدرها... فتخرج الكلمات رقيقة صادقة باكية مفعمةً بأمل اللقاء
والفرج... تقول:
هل
ترانا نلتقـي أم أنهـا *** كانت اللقيا على أرض السراب؟!
ثم
ولَّت وتلاشـى ظلُّهـا *** واستحالت ذكـريـــــــــــــــاتٍ للعذاب
هكذا
يسـأل قلبي كلمــا *** طالت الأيام من بعد الغياب
فإذا
طيفك يرنــــــــــــــــو باسـماً *** وكأني في استمــــــاع للجـــــــــواب
وتبقى
أمينة قطب محبةً مخلصةً وفيةً لذلك الزوج والحبيب، فتعيش بقية عمرها على ذكراه... بانتظار
اللقاء عند الله... في الجنة... وتغادر أمينة قطب عالم البشر إلى عالم الله سنة
2007، لتلقى الزوج الحبيب، والأخ العزيز وباقي الأحباء... ندعو الله لها بالرحمة والمغفرة...
د.
زهرة خدرج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق