الأحد، 29 يناير 2017

البقاء المقدس


البقاء المقدس

أحب أرضه وأحب الحياة فيها، ولكنه أحب كرامته وعزته أكثر، فحكاية العشق هذه بدأت منذ القِدم، منذ قَدِمَ الجد كنعان هنا، إلى هذه الأرض وستستمر الحكاية إلى ما شاء الله لأننا– نحن الفلسطينيون- نورث عشق الكرامة والعزة لأبنائنا كما نورث الأرض، فالويل ثم الويل لمن يمس بعزتنا وكرامتنا".

منذ البداية، أبصرت عيناه بيارات البرتقال، وامتلأت رئتاه بشذى زهورها في وقت الإزهار وثمارها في باقي العام،فلكل فترة من الوقت رائحتها الخاصة التي تعطرها بعطر البرتقال، وتجذرت في ذاكرته صورة الأرض التي تحمل على وجهها الأشجار المثقلة بالثمار، فأصبحت الأرض والأشجار جزء لا يتجزأ منه. حتى عندما كان يلهو في صغره، كان يجمع بعض الأزهار الصفراء البرية التي تنبت بين أشجار البرتقال والتي لم يكن يعرف لها اسماً ويصنع منها عقداً يضعه في عنق أمه، أو يعلقه على أحدى الأشجار العزيزة على قلبه.

منذ سنوات طفولته الأولى بدأ يرافق أفراد الأسرة لجني ثمار البرتقال في موسم القطاف الذي كان يبدأ من منتصف شهر تشرين الثاني وينتهي في نهاية شهر شباط.. بنى والده " سقيفة" في الأرض ليضعوا فيها مؤونتهم من الطعام والماء خلال موسم القطاف، بالإضافة لبعض الحاجيات الأخرى، كان مفتاحها كبيراً جداً يستعصي على الحمل داخل جيب الحزام الجلدي الذي كان يضعه والده على خصره فوق القنباز.

شب جدي وشب معه عشق الأرض، فعلى الرغم من عمله في تطويع الحديد وتشكيله، إلا أنه بقي يعمل في الأرض ويجني ثمار البرتقال في موسم القطاف بنفسه، ويرفض استقدام عمال ليقوموا بهذه المهمة، فالأرض جزء منه، وفي ظُهر ذات يوم قائظ الحر من أيام شهر أيلول (على عكس عادة أيام ذلك الشهر المعتدل الحرارة)، جاء صارخ يصرخ بأن" لحقوا أرضكم، اليهود كسروا باب السقيفة ووضعوا أسلاك شائكة على كل الأراضي الواقعة في المنطقة الغربية، أرضكم راحت"، تناول جدي بارودته وامتطى حماره وخرج مسرعاً،لحقت أخواته به خوفاً عليه وعلى الأرض، وجد جدي الأسلاك الشائكة موجودة فعلاً وباب السقيفة مكسور وبعض أشجار البرتقال مكسرة الأغصان.

أصلح باب السقيفة وقطع الأسلاك الموجودة وأزالها من الطريق، وقضى ثلاثة أيام بلياليها يحرس الأرض عساه يتعثر بمن داس أرضه ودنسها، أما اخته الكبرى فقد أحكمت قفل باب السقيفة بعد أن رتبت المكان ونظفته استعداداً لموسم القطاف الذي سيهل قريباً، وأعادت المفتاح معها إلى حيث يُحتفظ به.

ولكن لم يكن هناك موسم قطاف في ذلك العام، ليس لأن أشجار البرتقال قد عقمت فلم تعد تستطيع حمل الثمار، ولكن لأن الأرض قد صودرت، فقد أحاطت جماعات يهودية دخيلة مدججة بأسلحة حديثة، مساحات كبيرة من المنطقة الغربية بأسلاك شائكة ووضعوا نقاط مراقبة وحرس قناصون يطلقون النار دون أي تردد على أي شخص يقترب من الأسلاك، ووصلت أخبار كثيرة عن نساء اغتصابهن عندما وجدوهن يعملن في أراضيهن.

عَلِمَ جدي في ذلك الوقت أن هناك تحولاً خطيراً قد حدث في حياته، بل في حياتهم جميعاً، ومن دون أي مبررات أو تفسير، فبين عشية وضحاها لم تعد الأرض إرث الأجداد مُلكاً لهم كما اعتادوا دائماً، ما زاد الوضع قسوة وسوء أن الحكومة البريطانية شددت بحثها عن السلاح وزادت من حملات التفتيش والمداهمات التي تقوم بها، ومن ضبطت عنده بندقية أعدمته وفي أحسن الأحوال سجنته لفترات طويلة.

أدرك حينها أن الحياة الوادعة الآمنة التي كان يعيشها ما بين المِحدَدَة والأرض والبيت قد ولى عهدها، فهناك واجب مقدس يدعوه.

أخذ جدي "الحاج المجاهد عبد الفتاح خدرج" يجمع شباب البلد ويحضر لهم السلاح ويضع وإياهم الخطط ويحاربون المحتل الذي بدأ يغتصب الأرض والعرض بكل ما لديهم من إمكانيات بسيطة، كان يعمل حداداً في النهار لكسب قوت عائلته، مجاهداً في الليل لكسب رضا ربه، وفي معظم الأيام كان يعود إلى بيته مع بداية بزوغ خيوط الفجر الأولى، فيركع ويسجد ويرفع يديه إلى السماء طالباً من الله الشهادة في سبيله بصوت متقطع من شدة البكاء.

صنع من الحديد بعض قطع السلاح التي أثبتت فعاليتها في مقاومة المحتل، وهناك من أخبرني من كبار السن بأنه هو أول من صنع دبابة في المنطقة استخدمها المجاهدون في معاركهم مع اليهود. لهذا كان مطلوباً لهم حياً أو ميتاً.

وقبل احتلال اليهود لفلسطين عام 1948 بعام واحد في إحدى المناطق التي تقع في الشمال الغربي لمدينة قلقيلية تسمى " كوفيش" نشبت معركة حامية بين المجاهدين واليهود، قاتل جدي ومن معه ببسالة وإيمان بالله، استشهد جميع رفاق جدي، وبقي هو يقاتل حتى نفذت الذخيرة التي يحملها دون أن تأتي أي نجدة، وعندما أدرك أن الشهادة قد اقتربت منه، كبر وحمد الله بصوت مجلجل وكسر سلاحه حتى لا يستخدمه اليهود لقتل مسلم به، واخترقت رصاصة مقدمة جبينه لتسرع به إلى جوار ربه، ويحتجزوا جثته لعدة أيام قبل أن يتدخل كبار البلد ويستعيدوها لتدفن.


ولا زالت هذه القصة تتكرر بمسميات مختلفة للأماكن والأشخاص والتوقيت ولكن الحدث واحد في جميع الحالات، صحيح أن مساحة الأرض قد تآكلت، بل لنقل في تآكل مستمر، وصحيح أن هناك من وقع صكوك ملكيتها باسمهم، ولكن هذه الأرض الحبيبة ملك لكل فلسطيني وعربي ومسلم، فدماء أجدادنا ودمائنا ودماء أبنائنا التي روتها ولا زالت هي أمانة في أعناقنا حتى وإن تنازل البعض منا، فنحن هناك باقون، متشبثون بثراها وكرامتنا. 
#دكتورة_زهرة_خدرج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق