الخميس، 5 يناير 2017

ركام فتاة سورية



"ركام فتاة سورية"

كانت فتاة غضة، لم تغادر عالم الطفولة بعد.. إلا أنها بدت كعجوز هرمة سئمت من الحياة.. وقفت أمام صحفي لإحدى وكالات الأنباء المشهورة بانكسار، تطأطئ رأسها.. تشي عيونها بالخوف والمذلة، كان يلح عليها بأسئلته العديدة، عساه يسمع منها ما يمكِّنه من إعداد تقريره لوكالته.. أخذت تقول له بغضب أعلن عن نفسه في نبرة صوتها:
ماذا تريدني أن أحكي لك يا سيدي؟؟ أأقول لك بأن جميع الفئات الضالة القذرة تآمرت معاً ضد مدينتنا التي كانت تخاف حتى من التلفظ باسمها لأنها كانت كالكابوس المرعب الذي يقض نومهم وراحة بالهم؟ أأقول لك بأنهم تآمروا ليفتكوا بنا ويقتلوا الأمل داخلنا؟ دخلوا مدينتنا بعد مقاومة شرسة، جعلت قلوبهم تمتلئ حقداً وكرهاً لنا.. حاصروا بيوتنا، وأخرجوني وكثير من الفتيات مثلي ونحن نتضور جوعاً بعد أن أعدموا الرجال أمام أعيننا وكان من بينهم أبي وأخي الصغير الوحيد الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره.. واقتادوا أمي كما باقي النساء الكبيرات لمكان لا أعرفه.. كما لا أدري ماذا فعلوا معهن بعد ذلك، علمت أنهم قد قاموا بذبحهن كما النِعاج.
أأقول لك بأن جنودهم المرتزقة قد انتهكوا طُهري.. عندما وضعونا في ملعب لكرة القدم أنا والفتيات من أمثالي.. وبدأ مهرجان تمزق الملابس، وكشف العورات وفضح الستر.. أقول عن نفسي: أطفأوا سجائرهم في نهداي.. وداسوا ببساطيرهم عظام صدري، شعرت بها تتكسر تحت ركلاتهم.. وعبثوا بجسدي يا سيدي.. وكأنني لست ببشر.. اغتصبوني بطريقة وحشية تعجز الكلمات عن وصفها، حتى الحيوانات المفترسة تتورع عن فعلها.. وماذا أقول لك يا سيدي؟ أأقول لك بأنني رجوتهم، وذكرتهم بأعراض أخواتهم وأمهاتهم ليتركوني، فلم يفعلوا؟ بل زادوا في غيهم وجبروتهم وعبثهم.. ماذا أقول؟ أأقول بأنهم أخذوا يكتبون أسمائهم بسجائرهم في المنطقة الحساسة من جسدي؟؟  أأقول بأنني حتى الصراخ لم أعد أقوى عليه؟.
تمنيت حينها يا سيدي لو أنني مت قبل هذا.. لو أن أمي لم تلدني.. لو أنني انتحرت أو لو أنني ذُبحت كما أمي، أو لو أن صاروخ مزق جسدي قبل أن تسقط مدينتنا.. تمنيت يا سيدي لو أنني وحدي من سقطت.. تمنيت لو بقيت مدينتي وذهبت أنا.. لكان الأمر يهون حينها.. ولكني سقطتُ وسقطت مدينتي، فكان السقوط مضاعفاً وكارثياً.. أكثر أهل مدينتي ماتوا مرة واحدة، وأنا وآخرين أمثالي متنا آلاف المرات.. وبصور شتى..
كرهت نفسي منذ ذلك الحين.. ولم يكتفوا بما فعلوه معي.. بل ألقوا بي قرب حاوية قمامة وأنا غائبة عن الوعي وعارية لتأكلني الكلاب والقطط الجائعة.. ولكن قدري لم يكن ليكتبه هؤلاء الأنذال.. فما زال في عمر هذه الفتاة الشقية الماثلة أمامك بقية.. ولا تدري ماذا تخبئ لها الأقدار في علم الغيب.
آلامي يا سيدي لا يمكنني أن أصفها لك.. ليس الألم مما جرى لي أنا فقط.. وإنما من كل ما جرى لبلادي وشعبي وأهل مدينتي وأهلي.. ولكني رغم كل ذلك لست يائسة يا سيدي.. فالجراح ستندمل وتزول، ومن مات سيولد غيره يكمل مسيره، والآلام ستذهب في سبيلها.. ومدينتي ستعود بإذن الله، سنعمِّرها بأيدينا وسنزرعها لنبث الروح فيها وتعود أفضل مما كانت يا سيدي.. فالدماء التي أريقت لن تذهب هدراً.. والأعراض التي هُتكت لن تروح هكذا عبثاً.. فليغدو الحديد نقياً، لا بد له من النار والطرق.. وهو ما يحدث لنا الآن.. وهو ما يبشر بقرب النصر والتمكين بإذن الله.. فأعلنها يا سيدي على لسان فتاة صغيرة انتُهك عِرضها.. لتؤنس قلوب المسحوقين.. فالظالم لن تبقى قوته التي تسمح له بظلم الناس.. ستزول كما تزول الشمس في آخر النهار، كما لن يبقى المستضعف على حاله.. وسيكون حينها وقت الحساب العسير لكل طاغية وظالم.
وأطلب منك يا سيدي أيضاً أن تبلغ المتفرجين الذي يصمتون صمت القبور أمام مآسينا وأقول لهم: لن يشفع لكم التاريخ جبنكم، ولن يغفر الله لكم صمتكم.. وإذا بقيتم على حالكم سيأتي دوركم.. "ألا إنما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".
#دكتورة_زهرة_خدرج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق