الخميس، 18 أبريل 2019

أنا من اخترت منفاي بإرادتي


أنا من اخترت منفاي بإرادتي
نتيجة بحث الصور عن منفى اختياري

أنا مشتاق لك أماه.. وأتمنى لقاؤك، والارتماء في حضنك، وتقبيل يديك وقدميك. فأعذريني أماه لأني اخترت منفاي طواعية، فالناس عادةً تُنتزع من أوطانها مكرهة، أما أنا فقد لملمت شتاتي ورحلت عنه بإرادتي بعد أن جفاني، وكره بقائي على ثراه، ولأني أحبه كما أحبك يا أمي كرهت أن أبقى رغماً عنه، وفضَّلت أن أحتفظ له في قلبي بمكانة رفيعة؛ لذا آثرت الرحيل.
في المنفى يا أمي، بالرغم من البرد القارس الذي يخترق اللحم ويفتَّ العظم ويعضَّ الأنامل ويطبق على الصدر، إلا أنني وللمرة الأولى في حياتي أشعر بأنني كائن يستحق الاحترام والوجود، فقط لأنني بشر، وهو ما لم أشعر به في وطني الحبيب قط.. هنا وجدت من يقتسم طعامه معي بالرغم من أنه لا يعرفني، ويتحدث بلسان غير لساني، ويعتقد بدين غير ديني، وله لون غير لوني.. لم يتحيز ضدي، بل تقبلني ما فيَّ من اختلافات، وتذكر فقط بأن الإنسانية جمعتنا، ولذا عليه أن يعاملني كإنسان.
وآه للإنسان في بلادي يا أمي.. أأتحدث عن الحصار الفكري أو المكاني الذي ما فتئت أشعر به يطاردني؟ أم أتحدث عن قمع المبادئ والآراء المغايرة الذي أجده ما زال يطبق قبضته على أنفاسي، والتي لا يفلت منها إلا المطبِّلون والمزمِّرون؟ أشخاص تكتظ بهم مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية وشوارعنا ومدننا وقرانا ومخيماتنا، وظيفتهم فقط إظهار الزعيم وكأنه الشخص المقدس الذي تعلو مرتبته عن مرتبة البشر، صاحب الزخم الشعبي الذي يطالب الجميع ببقائه ويدعون له آناء الليل وأطراف النهار بطول العمر والبقاء. فإن ذهب الزعيم لا قدَّر الله، فقد تزول البلاد خلفه.
في بلاد اللون الواحد، وبلاد الطيف السياسي الواحد، والفكر الواحد، والاعتقاد الواحد، وحكم الفرد الواحد، كل شيء فريد من نوعه، وصحيح بشكل مطلق لا يقبل أي نوع من التأويل.. والويل والثبور، وعظائم الأمور لمن تسول له نفسه أن يُظهر اختلافه أو يعلن عنه بأي أسلوب كان.
أشفق يا أمي على الإنسان العربي في بلادي، فالفقر لا  يتخلى عنه كما ظله، والشعور بالدونية لا تمل رفقته.. إن حلَّ الوبال بالبلاد، فليجوع الناس، وليحتملوا آلام الأمراض، وليموتوا من أجل الوطن، لا ضير في ذلك، فإن لم يكونوا هم، فمن سيكون يا تُرى؟ ألا يستحق الوطن تضحياتهم وصبرهم وجوعهم وحتى أرواحهم؟ ولو سولت لأحدهم نفسه الأمَّارة بالسوء أن يتساءل عن التنازلات التي يقدمها أصحاب الفخامة والسمو، تقوم الدنيا ولا تقعد، فهؤلاء استثناء، لا تطالهم القواعد التي تسري على كافة شرائح المجتمع، فلكل شريحة من الناس قوانينها الخاصة التي تحكمها.
حِذار أن تسأل وزيراً مثلاً، من أين لك هذه السيارات الحديثة وهذه البيوت العصرية الضخمة وهذا الأثاث الفاخر، لا تسأله كيف تذهب للعلاج في الدول الأجنبية، ولا كيف تتسوق زوجتك في أرقى الأسواق والمولات العالمية، ولا كيف يدرس أبناءك في أعرق الجامعات والمعاهد الأجنبية.. فعالية القوم وأسرهم استثناء في كل شيء، فإن لم يعش هؤلاء بهذه البذخ المريح الذي يحافظ على أعصابهم وصحتهم ومكانتهم، سيتضرر الوطن.. نعم سيتضرر! وستختل مصالحه، وقد ينهار على ساكنيه.. فالحذر الحذر من تقويض الوطن بوسوسات شيطانية هي تضر ولا تنفع.
كنت أقول يا أمي فيما مضى بأني سأهب للوطن طاقاتي وعلمي وقدرتي، وسأبنيه وأرفع ذكره للأعلى.. ولكن اعذريني يا أمي، تمتلك رقابنا في الأوطان عصابات، ليتها كانت مثل صعاليك الجزيرة العربية أيام جاهلية قريش وأصنامهم، ليتها كانت في مثل أخلاقهم وشجاعتهم وشهامتهم، لكنَّا الآن نقود الأمم، ولكنها عصابات تتبع سيرة فالفايكنج وتسير على خطاهم، الذين كانوا يدمرون ويقتلون ويفتكون وينهبون ولا يتورعون عن عمل أي شيء يظنونه يصب في مصلحتهم.
اخترت يا أمي منفاي بنفسي، من بين خيارات عدَّة تجرُّني جميعها للحضيض، وتفتك بإنسانيتي، وتبيد كرامتي. فسامحيني أماه، فأنا ما رحلت إلا لأقوم بإعداد نفسي استعداداً للمواجهة القادمة التي لا مناص منها مع من أحالوا عيشنا إلى جحيم وبلادنا إلى حروب لا تنتهي، فلا تغضبي مني يا أمي، ولا يكون قلبك حزيناً.
#دكتورة_زهرة_خدرج

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق