يبوس...!!
مثقلاً
بهمومه غادر القرية الصحراوية الجافة التي ولد فيها باحثاً عن الحياة والأمان،
مسافات طويلة مشى سيراً على أقدامه، جائعاً عطِشاً... وصل إلى بلاد جميلة تكثر
فيها السهول الخضراء والماء والكلاء... حط رحاله واستراح... وقرر البقاء... فربما تكون هذه قطعة من الجنة التي
وصفتها له جدته نقلاً عن جدتها حواء... بنى في إحدى مُغرها بيته الذي سيصبح يوماً
ما شاهداً على عروبة هذه الأرض وبراءتها ممن سيدعون ملكيتها بعد ذلك..
تزوج
الجد كنعان من امرأة جاء بها من إحدى القبائل التي سكنت في شمال الأرض التي اتخذها
موطناً له... قطع مسافات طويلة وتعب كثيراً ليأتي بهذه الزوجة التي تؤنس وحدته
وتعينه على تحمل أعباء الحياة الجديدة... ولم يكن يعلم حينها أن هذه الأرض ستحمل
اسمه إلى ما شاء الله.
جدنا
كنعان عربياً أصيلاً، وشجاعاً، ومقداماً، وطيباً، وكريم النفس، ويحب كثرة الأبناء،
فقد أنجب الكثير منهم؛ الذكور والإناث، كما ويعشق أرضه... وكان قد سمى كل منطقة من
الأرض باسم خاص يليق بموقعها وطبيعتها، فهذه يوفه الأرض الرائعة التي تطل على
البحر، وهذه أشقلون التي تقع في طريق الهجرات، وتلك المنطقة الجبلية بيت إيل حيث
كان يذبح ذبائحة قرباناً إلى الله، وأما الأرض التي تكثر فيها الأزهار البرية
الملونة التي كانت تصنع منها بناته أكاليل ورد يتزين بها فقد أسماها عطاروت...
وهلم جرا.
أكثر
جدنا كنعان من زراعة النخيل في منطقة تقع إلى الشمال الشرقي من أرض يبوس وأسماها
أريحاء... فكانت مدينة القمر باللغة التي كان يتحدث بها... وكانت أريحاء أول مدينة
تبنى في العالم لتشهد للكنعانيين بالرقي وبعد النظر الإنساني... وعندما شب أبناؤه،
بدئوا معه المسير... وأخذوا يكملون ما بدأه والدهم... فهم يحبون الأرض التي تعج
بالحياة، ولا يحتملون أرضاً قاحلةً فارغةً... فهذا ليس من شيمهم ولهذا السبب
تحديداً غادر والدهم مسقط رأسه وأعمر هذه القطعة من الأرض... عساه يستعيد ذكريات
الجنة التي سمع عنها من أجداده... لتكون أرض كنعان جنة الله على أرضه.
وقد
سمى احدى بناته يبوس التي حملت اسمها الأرض القديمة التي كان يشعر أن لها قدسية خاصة
في نفسه، لم يُعَلمه ذلك أحد... ولكنها الفطرة النقية التي فُطر عليها... ومن شدة
حبه ليبوس الأرض فقد زرعها بأشجار تستمر خضرتها طوال العام وتثمر بحب صغير أخضر
اللون عندما عصره ذات مرة خرج منه زيت أعطى طعامه مذاقاً لذيذاً أشعره بالشبع
وأمده بالطاقة... سمى الجد كنعان ذلك الشجر بـــِ "شجر الزيتون". وعلى
أرض يبوس بنى الأحفاد مدينة يبوس المقدسة بعد ذلك.
وعندما
كبر كنعان في السن... وضعفت قواه وخفت نظره... طلب من أبناءه أن يحملوه إلى أرض يبوس
ليلثم ثراها ويقبل زيتونها قبل أن توافيه المنية... وهناك بدأ يملي عليهم وصيته
قائلاً:" يا بَنِيَّ؛ اعلموا أن هذه أرضي... جئتها وأن في أوج الشباب وأفنيت
فيها أيام حياتي الطويلة، زرعتها لتغدو جنة... حافظوا عليها كما تحافظوا على
أرواحكم... هذه الأرض ليست للبيع، إنما هي لي ولكم ولأبنائكم من بعدكم ولأحفادكم
الذين لم يولدوا بعد... صك ملكيتها مدفون هنا في أرض يبوس... أرض كنعان أمانة في
أعناقكم... إلى اليوم الذي تبعثون فيه أمام الله...
يا
بَنِيَّ: بلغوا جميع أبنائكم وأحفادكم وجميع من سيأتي من بعدكم هذه الأمانة التي
سأسألكم عنها أمام الله...."
وقضى
الجد كنعان على أرض يبوس ودفن فيها إلى جانب صك ملكية أرضه... ولا زال صدى كلماته
يتردد في آذاننا حتى أيامنا هذه بعد مرور آلاف السنين، ولا زال ثرى يبوس يذكر جدنا
كنعان...
لم
يكن الجد كنعان ليصدق، أنه سيأتي في يوم من الأيام من يكذب ويدعي ملكية أرضه
لنفسه... فيُزَور الحقائق والتاريخ، ويزور أسماء الأماكن ويدعيها لنفسه، ويغتصب
زيتونه ونخله ويبوسه وأريحاءه... لم يكن هو ولا حتى أبناءه ولا أحفاده ليعتقدوا أن
هناك من سيجرؤ على إحالة جنتهم إلى حجارة صامتة صمت الأموات يسميها بـــِ
"المستوطنات"... وأن هناك أيضاً من سيجرؤ على مصادرة يبوس التي زرعوا
شجرها بأيديهم... فما زالت جذور الزيتون شاهدة على ملكية جدنا كنعان ليبوس... ولا
زالت آثار حبات عرقهم والدماء التي نزفت من عروقهم موجودة تدحض هذه الادعاءات...
د.
زهرة وهيب خدرج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق