الأربعاء، 26 أغسطس 2015

هل تحبيني؟

هل تحبيني؟


أمسك بطرف ثوبها وهزه بقوة قائلاً: أمي هل تحبينني؟ كثيراً ما يسألها هذا السؤال خاصة عندما تنشغل عنه لبعض الوقت، وكأنه يريد أن يتأكد أنه لا يزال الأحب بالنسبة لها رغم مشاغلها الكثيرة التي تخطفها منه، فهو دائم القلق والحرص على مشاعرها تجاهه. أجابته من دون تردد وبعاطفة جياشة: أنا "بموت" عليك، أنت روحي!

طرب لكلماتها وانطلق خارجاً لإكمال لعبة كرة القدم مع ابناء الجيران، تعلو وجهه ابتسامة عريضة. تذكرت فجأة صينية الدجاج مع البطاطا التي وضعتها قبل ساعة ونصف في الفرن، انطلقت راكضة للاطمئنان عليها، حمدت الله عندما وجدتها لم تحترق بعد!

سمعت فجأة صوت انفجار عنيف هز أركان منزلها الصغير، حتى خُيل إليها أنه سينهار فوق رؤوسهم، سيطر القلق عليها، وتدفق سيال عاتي من الأفكار حول سبب الصوت ومصدره، وبسرعة توجهت للخارج باحثةً عن صغيرها، وجدته ملقى على الأرض ووجهه مغطى بالدم، صرخت بقوة وضمته إلى صدرها... فإذا به يلتقط أنفاسه بصعوبة...

كان جسماً مشبوهاً هو الذي انفجر فيه، بعد أن ركله بقدمه إلى الأعلى... خلَّف انفجاره جروحاً عميقه في ساقه ووجهه، وأفقده البصر في كلتا عينيه... فاستحالت الدنيا في ناظريه ظلام دامس... واصطدمت نفسه فجأة بواقع جديد، مرير ومؤلم...

تقبلت تماماً ما حدث، بل حمدت الله وشكرته، ورأت فيه ابتلاءً من الله، فرغم أن زوجها أسير محكوم بالسجن المؤبد، وابنها الأكبر شهيد، وها هو ذا صغيرها يفقد البصر إلى الأبد... إلا أن عزيمتها لم تضعف، بل صممت أن تجعل منه إنساناً ناجحاً مميزاً مهماً في مجتمعه. وهذا هو قدر المرأة الفلسطينية المسلمة المقاوِمة دائماً، فلا مكان للضعف لديها... ولا مكان للهزيمة... إنما النجاح في مهمتها الجهادية هو الخيار المطروح أمامها فقط...

دعمته نفسياً بكل ما أوتيت من قوة، وأخذت تشحن نفسه بالقوة والعزيمة والإصرار والإيمان بالله... علمته كتاب الله حتى حفظه عن ظهر قلب، وتعلمت هي لغة "بريل" وأخذت تعلمه إياها... حرفاً بحرف وكلمة بكلمة... بل أخذت تطبع بنفسها الحروف والكلمات بتلك اللغة، لتكوِّن النصوص التي تريده أن يقرأها ويتعلمها... تبذل الكثير من الجهد في تعليمه، وفي أداء مسؤوليات البيت والأسرة، فلديها ثلاث بنات بحاجة للكثير من الوقت والجهد أيضاً.

كان يسيطر على نفسه أحياناً حزن عميق، عندما يجد نفسه مختلفاً عن غيره من الأطفال، فقد كان يسمعهم يلعبون كما كان يلعب من قبل... أما الآن فلا... فهو إما أن يتعثر في حفر الشارع إن أراد الخروج، أو أن يتعرض لضربات كراتهم.

قدمت له على مدار سنوات طويلة كل ما تستطيع من حب وعناية وتحفيز دائم وشحذ لهمته، علمته الإصرار والمثابرة ونجحت في غرس حب العلم في نفسه، كان همها دائماً أن تجعله يعتمد على نفسه ويحل جميع مشكلاته بنفسه، لدرجة أنها كانت كثيراً ما تبكي لشعورها بأنها تقسو عليه كثيراً... ولكنها كانت تخاف إن ماتت هي، أن لا يجد من يعتني به، لهذا لا بد له من أن يعتمد على نفسه تماماً.

شب الصغير شغوفاً بالقراءة ومعلقاً قلبه بالمساجد... فقبل كل صلاة كان يجلس يتلو القرآن بصوت عذب حتى الإقامة، فيصلي ثم يتحسس الطريق بعصاه عائداً إلى البيت.

مرهف الحس جداً نشأ هذا الصغير... لمست فيه حبه للأدب، وبدأ رحلته في الكتابة الأدبية في الرابعة عشرة من عمره، بعد عامين، عرضت كل ما كتب على أستاذ جامعي للغة العربية، ليقوِّمه ويوجهه...

في نهاية الصفحة الأخيرة من كتابات صغيرها الأعمى الذي غدا شاباً يافعاً، كتب الأستاذ ملاحظة جعلتها تطير فرحاً وتشعر أن الله قد عوض صبرها وتعبها في السنوات الماضية.

الملاحظة هي" ها أنا ذا أشهدُ مولد أديب جديد، أتوقع له مستقبلاً واعداً... قدماً وإلى الأمام...".

د. زهرة وهيب خدرج


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق